أسباب الحملة الفرنسية على مصر

تمثل الحملة الفرنسية على مصر، التي قادها نابليون بونابرت في عام 1798، واحدة من أكثر الأحداث تأثيرًا في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. فهي لم تكن مجرد حملة عسكرية تقليدية تهدف إلى الغزو والتوسع فحسب، بل كانت مشروعًا إمبرياليًا ذا أبعاد استراتيجية واقتصادية وعلمية وثقافية معقدة. لفهم الأسباب الحقيقية التي دفعت فرنسا، بقيادة نابليون، إلى القيام بهذه الحملة، ينبغي الغوص في السياقات الدولية والمحلية التي أحاطت بها، وتحليل الأهداف المعلنة والخفية التي سعت الحملة لتحقيقها.

السياق الدولي والإقليمي للحملة الفرنسية على مصر

في أواخر القرن الثامن عشر، كانت أوروبا تعيش حالة من التوترات السياسية والحروب المتكررة، خاصة في أعقاب الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789. هذه الثورة لم تغيّر فقط شكل الحكم في فرنسا، بل هزّت عروش الممالك الأوروبية المحافظة، ما جعل فرنسا في حالة شبه دائمة من الصراع مع القوى الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا والنمسا وروسيا. وقد أدّت هذه الحروب الثورية إلى دفع فرنسا للبحث عن مناطق نفوذ جديدة يمكن أن تحقق لها تفوقًا اقتصاديًا واستراتيجيًا في مواجهة أعدائها.

على الصعيد الآخر، كانت الإمبراطورية العثمانية، التي كانت مصر تابعة لها نظريًا، تعاني من ضعف شديد وتدهور سياسي واقتصادي، بينما كانت مصر فعليًا تحت حكم المماليك الذين لم يكن لهم الولاء الكامل للدولة العثمانية. هذا التراخي في السيطرة العثمانية على مصر جعلها هدفًا مغريًا للقوى الاستعمارية الأوروبية الطامحة لتوسيع نفوذها في الشرق.

الأسباب السياسية والاستراتيجية للحملة

1. قطع الطريق على بريطانيا إلى الهند

أحد أهم الدوافع الاستراتيجية التي حفزت فرنسا لشن الحملة على مصر هو موقع مصر الجغرافي الفريد. كانت بريطانيا تعتمد بشكل كبير على طريق التجارة البحرية إلى الهند، التي كانت تُعد جوهرة التاج البريطاني في تلك الحقبة. الطريق البحري من أوروبا إلى الهند يمر عبر البحر المتوسط ثم البحر الأحمر، وهو ما يجعل السيطرة على مصر أمرًا حيويًا لقطع هذا الطريق.

فرنسا رأت في احتلال مصر وسيلة لضرب المصالح البريطانية في الهند بشكل غير مباشر، وذلك عبر التهديد بإقامة طريق بري أو بحري بديل عبر مصر إلى البحر الأحمر، مما يمنح فرنسا ميزة استراتيجية كبرى. وبالتالي فإن السيطرة على مصر كانت خطوة ضمن مشروع أكبر لضرب النفوذ البريطاني في آسيا وإضعاف الاقتصاد البريطاني الذي كان يعتمد بشكل كبير على مستعمراته في الشرق.

2. منافسة القوى الأوروبية الكبرى

أرادت فرنسا أيضًا أن تبرز كقوة عالمية كبرى تمتلك مستعمرات وتفرض نفوذها خارج أوروبا. بريطانيا كانت تمتلك إمبراطورية شاسعة تشمل الهند وكندا وأجزاء واسعة من أفريقيا، بينما كانت إسبانيا والبرتغال تسيطران على مستعمرات في أمريكا اللاتينية وأفريقيا. أما فرنسا، فقد فقدت مستعمراتها في أمريكا الشمالية بعد هزيمتها في حرب السنوات السبع أمام بريطانيا.

من هذا المنطلق، جاء التفكير في حملة مصر كمشروع استعماري يعيد لفرنسا هيبتها ومكانتها على الساحة الدولية، ويؤسس لموطئ قدم فرنسي في الشرق يمكن أن يكون مركزًا للانطلاق نحو آسيا وأفريقيا.

الأسباب الاقتصادية للحملة

1. التوسع التجاري وتأمين الموارد

كان الاقتصاد الفرنسي يعاني من ضغوط شديدة بعد سنوات من الثورة والحروب، وكانت الحاجة ملحة لفتح أسواق جديدة وتأمين مصادر للثروات والموارد الأولية. وقد كانت مصر، بوصفها بلدًا زراعيًا غنيًا وملتقى طرق تجارية، مغرية للغاية بالنسبة للفرنسيين. فقد رُوي أن نابليون كان ينظر إلى مصر كمصدر للقمح والحبوب وسوق محتمل للمنتجات الفرنسية.

كما كانت التجارة بين البحر المتوسط والبحر الأحمر تمر عبر مصر، مما يجعل من يسيطر عليها قادرًا على التحكم في جزء مهم من التجارة العالمية في ذلك الوقت. هذا فضلاً عن قربها من شبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا، ما يجعلها مركزًا ممتازًا للانطلاق نحو أسواق جديدة.

2. احتكار التجارة الشرقية

من خلال السيطرة على مصر، كانت فرنسا تطمح إلى احتكار التجارة القادمة من الشرق، خصوصًا التوابل والمنسوجات والبضائع الثمينة القادمة من الهند والصين. المشروع الفرنسي كان يقوم على إعادة إحياء الطرق التجارية القديمة التي تمر عبر البحر الأحمر، وبناء قاعدة بحرية وتجارية قوية في مصر تنافس الموانئ البريطانية في المتوسط.

الأسباب العلمية والثقافية للحملة

1. التنوير والعلم كأدوات للهيمنة

من أبرز ما يميز الحملة الفرنسية على مصر هو الطابع العلمي والثقافي الذي صاحبها. فقد كانت الحملة تتضمن عددًا كبيرًا من العلماء والباحثين والمهندسين، الذين جاءوا بهدف دراسة تاريخ مصر وجغرافيتها واقتصادها وآثارها. وكان هذا غير معتاد في الحملات العسكرية التقليدية.

هذا التوجه لم يكن بريئًا، بل كان يحمل في طياته بعدًا استعماريًا جديدًا يتمثل في ما يمكن تسميته بـ”الهيمنة الثقافية”. ففرنسا كانت تحاول أن تقدم نفسها كقوة حضارية تنقل العلم والتنوير إلى الشعوب “الجاهلة” وفقًا لنظرتها الاستعلائية، وقد استخدمت ذلك كوسيلة لتبرير احتلالها وتقديمه كمشروع تحضيري لا احتلالي.

2. البحث الأثري واستكشاف الحضارات القديمة

شكلت مصر القديمة محور اهتمام واسع لدى الأوروبيين في القرن الثامن عشر، وقد رافقت الحملة الفرنسية بعثة علمية أسفرت عن اكتشافات هامة في مجال الآثار، أبرزها حجر رشيد الذي ساعد لاحقًا في فك رموز الكتابة الهيروغليفية.

كان الدافع وراء هذا الاهتمام الأثري مزدوجًا: من جهة حب المعرفة والاكتشاف الذي كان سائداً في عصر التنوير، ومن جهة أخرى الرغبة في إثبات أن فرنسا هي الوريث الشرعي للحضارات القديمة من خلال استكشافها وتوثيقها، مما يعزز من مكانتها الثقافية والعلمية عالميًا.

الأسباب المرتبطة بشخصية نابليون بونابرت

1. الطموح الشخصي والسياسي

نابليون بونابرت، الذي كان قد لمع نجمه كقائد عسكري ناجح في إيطاليا، كان يطمح إلى تعزيز مكانته السياسية في الداخل الفرنسي عبر نجاح عسكري خارجي مذهل. الحملة على مصر كانت تمثل فرصة له ليحقق مجدًا عسكريًا بعيدًا عن أوروبا، وليؤسس لنفسه شعبية تدعمه لاحقًا في مساعيه السياسية داخل فرنسا.

2. الرغبة في بناء إمبراطورية شرقية

كان نابليون مفتونًا بالنماذج الإمبراطورية التاريخية مثل إمبراطورية الإسكندر الأكبر، وكان يحلم بتأسيس إمبراطورية فرنسية تمتد من البحر المتوسط إلى آسيا. الحملة على مصر كانت تمثل الخطوة الأولى في هذا المشروع الطموح، وهي خطوة كان يرى فيها بداية لتحقيق مجد شخصي وجماعي لفرنسا.

الأسباب المتعلقة بالوضع الداخلي في مصر

1. ضعف الحكم المملوكي

كان حكم المماليك في مصر يعاني من ضعف واضح وصراعات داخلية متكررة بين أمراء المماليك، مما جعل البلاد عرضة للتدخلات الخارجية. الفرنسيون كانوا على دراية تامة بهذه الانقسامات، واعتبروها فرصة سانحة للتدخل والسيطرة بسهولة نسبية، خاصة أن المماليك لم يكن لديهم جيش حديث أو بنية دفاعية قوية.

2. تدهور الاقتصاد المصري

الوضع الاقتصادي في مصر كان مترديًا نتيجة الضرائب المفرطة وسوء إدارة الموارد، ما أدى إلى حالة من الاستياء الشعبي الذي سهل اختراق البلاد من قبل قوة أجنبية. الفرنسيون كانوا يعولون على كسب بعض الشرائح من السكان المصريين من خلال تقديم أنفسهم كقوة مخلصة من الاستبداد والفساد المملوكي.

الجدول التالي يوضح أبرز العوامل المؤثرة في قرار فرنسا شن الحملة على مصر:

الخاتمة

يمكن القول إن الحملة الفرنسية على مصر لم تكن وليدة سبب واحد بل كانت نتاج تراكب مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والثقافية والشخصية. وقد مثلت مصر، بموقعها وثرواتها ووضعها الداخلي، نقطة جذب كبيرة في حسابات القوى الاستعمارية آنذاك، وكانت بالنسبة لفرنسا محطة استراتيجية نحو أهداف أكبر في الشرق. وقد أظهرت هذه الحملة طبيعة الاستعمار الحديث الذي لم يعد يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل وظف المعرفة والعلم والثقافة كأدوات للسيطرة والهيمنة.

المصادر والمراجع:

• علي عبد الرحمن: الحملة الفرنسية على مصر والشام، دار المعارف، القاهرة.

• عبد الرحمن الرافعي: تاريخ مصر القومي من الحملة الفرنسية حتى نهاية حكم إسماعيل، دار المعارف، القاهرة.